تصعيد جديد بين فنزويلا والولاات المتحدة
أعلنت فنزويلا يوم الثلاثاء عن تعبئة عسكرية شاملة على مستوى البلاد، معتبرةً أنها رد على تزايد تواجد قوات بحرية أميركية قبالة سواحلها. وبعد يومين، كشفت واشنطن عن عملية أسمتها “الرمح الجنوبي” ووصفتها بأنها تستهدف ما سمتهم بـ«الإرهابيين المخدراتيين» في نصف الكرة الغربي.
أثارت هذه التحركات قلقاً في كاركاس، حيث يخشى مسؤولون أن تستغل الولايات المتحدة هذه العمليات كذريعة للضغط لإزاحة الرئيس نيكولاس مادورو عن السلطة. وفي كلمة ألقاها وزير الخارجية إيفان جيل قال: «نقول للإمبراطورية الأميركية لا تجرؤوا: نحن مستعدون».
ما الذي حصل خلال الأسابيع الماضية؟
تصاعدت التوترات تدريجياً بعد سلسلة من الضربات التي نسبتها واشنطن لقوارب في البحر الكاريبي ثم في المحيط الهادئ، زاعمةً أنها كانت تُقل مهربين لنقل المخدرات إلى داخل الأراضي الأميركية. تقول السلطات الأميركية إن الضربة العشرين جرت هذا الأسبوع، وأنّ نحو ثمانين شخصاً قُتلوا في الإجمال. إلا أنّ الإدارة الأميركية لم تُقدّم حتى الآن دليلاً علنياً يثبت وجود مخدرات أو مهربين على تلك القوارب، ولا تفسيراً قانونياً مقبولاً لكيفية تبرير هذه العمليات، ما دفع خبراء إلى القول إنها قد تنتهك القانون الدولي.
في قلب اتهامات واشنطن، تبرز مزاعم غير مثبتة تفيد بأن مادورو متواطئ مع شبكات تهريب المخدرات لتوجيه شحنات إلى الولايات المتحدة.
التعزيز البحري الأميركي
أرسلت واشنطن مجموعة ضاربة تقودها حاملة الطائرات يو إس إس جيرالد ر. فورد إلى مياه الكاريبي والمحيط الهادئ — تشكيل بحري قوي مبني حول أكبر وأحدث حاملة طائرات في العالم. الحاملة تُعد قاعدة جوية عائمة، قادرة على إطلاق وهبوط وتزويد وتسليح طائرات قتالية في عرض البحر، وهي تعمل بالطاقة النووية ومزودة بتقنيات متطورة، ترافقها مدمرات صاروخية وسفن إسناد، ويحمل التشكيل أكثر من أربعة آلاف فرد وعشرات الطائرات التكتيكية جاهزة للنشر السريع.
وصفتها وسائل إعلامية بأنها «قلعة عائمة للقوة الأميركية»، لكن المحللين رأوا أن الهدف المعلن للعملية توسع مع الزمن ليشمل مهاماً تتجاوز مكافحة المخدرات إلى أنشطة ضد نظام مادورو. كما أشار مارك كانسيان، مستشار مجموعة الدفاع والأمن في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، إلى أن حاملة الفورد ليست مثالية لعمليات مكافحة المخدرات؛ فهي مُهيّأة أكثر للقتال ضد خصوم بحريين أو بريين، كما أن تواجدها لا يمكن أن يستمر بلا حدود لأن الطلبات عليها عالمياً كثيرة، وبالتالي سيتعين على القيادة الجنوبية للجيش الأميركي أن تقرر إما استخدامها بفعالية أو سحبها.
هل فنزويلا مستعدة لصد هجوم؟
ردّت حكومة كاراكاس بإعلان تعبئة «هائلة» تشمل قوات مسلحة ومدنيين تحسّباً لأي تحرّك أميركي محتمل. وأعلن وزير الدفاع فلاديمير بادرينو لوبيز دخول «مرحلة أعلى» من خطة الاستقلال 200، وهي آلية دفاعية أُمرت في سبتمبر لتعزيز التدابير ضد الوجود الأميركي في الكاريبي. وقال إن «ما يقرب من 200,000 جندي تم نشرهم في كامل التراب الوطني لأجل هذا التمرين»، الذي كان مقرراً أن يبدأ يوم الثلاثاء وينتهي يوم الأربعاء.
شدّد بادرينو لوبيز على تماسك القوات المسلحة، وادّعى أن أكثر من 90% من الشعب يرفض أي عدوان ضد فنزويلا، وقلّل من أهمية قوى المعارضة بوصفها «أقليّة، تخريبيّة وفاشية» وزاعمًا أنها «لم تعد موجودة» في المشهد السياسي الوطني. وقد طرح التعبئة كجزء من موقف أوسع لمناهضة «العدوان الإمبريالي» ومحاولات واشنطن أن تلعب دور «الهيمن العالمي» و«شرطي العالم»، مؤكداً تمسّك فنزويلا باستقلالها وحريتها وسيادتها.
الخلفية والتماسك الداخلي
يرى المحللون أن الجيش الفنزويلي مرتبط سياسياً واقتصادياً ومؤسسياً بحركة الشافيزية التي شكّلت الدولة الفنزويلية لأكثر من عقدين. تستند العقيدة العسكرية إلى سياسات أرسى أسسها الراحل هوغو شافيز، وتؤكد على كون العسكريين «وطنيين، شعبيين ومناهضين للإمبريالية». في هذا الإطار، تبدو القيادة العسكرية متوافقة مع أجندة الحكومة الحالية، لكن مدى قدراتها العملياتية الحقيقية في مواجهة قوة بحرية عظمى يبقى موضوع تقدير واختبار في الساحة الإقليمية والدولية. تولّى نيكولاس مادورو رئاسة فنزويلا بعد وفاة هوغو تشافيز في 2013.
قال إيلياس فيرير، مؤسّس مركز أبحاث أورينوكو ورئيس تحرير منظمة غاكامايا الإعلامية الفنزويلية، لِـ”الجزيرة” إنه لا يعتقد أن الحكومة الفنزويلية والقوات المسلحة ستنهار لمجرّد التهديدات. وأضاف أن أطر التفكير لدى هذه المؤسسات تجعلها تتجمّع وتتكاتف عند مواجهة مخاطر، ما يعزّز موقعها بدلاً من تفكيكه.
ما هي القدرات العسكرية الحالية لفنزويلا؟
حسب تصنيف القوة العسكرية العالمي (Global Firepower) لعام 2025، تحتل فنزويلا المرتبة الخمسين بين 160 دولة مصنّفة على صعيد القدرات العسكرية، وتأتي سابعة على مستوى أمريكا اللاتينية. تسبقها في المنطقة قوات البرازيل والمكسيك والأرجنتين، بينما تقاربها في الترتيب دول مثل كولومبيا وتشيلي وبيرو.
يشير تقرير صدر هذا الأسبوع عن مركز دراسات السياسات الدولية (CSIS) إلى أن القوات الجوية الفنزويلية صغيرة وحالها جزئياً وظائفية. يُقدر أن نحو 30 من أصل 49 طائرة لا تزال قابلة للعمل، وأن ثلاثاً فقط من طراز ف16 قادرة على الطيران نتيجة نقص قطع الغيار الناجم عن عقوبات الولايات المتحدة. كما استثمرت فنزويلا مبالغ كبيرة في منظومات تسليح روسية — صواريخ وطائرات مقاتلة — تهدف إلى ردع أو مجابهة قطع وسفن وطائرات أميركية. لدى فنزويلا ما لا يقل عن 21 مقاتلة من طراز سوخوي-30 قادرة على العمل، وهذه الطائرات يمكن تجهزيها بصواريخ مضادة للسفن تفوق سرعة الصوت مثل Kh‑31A، وهي تهديد خطير للسفن الحربية العاملة قرب السواحل الفنزويلية.
يرصد تقرير CSIS أنّ مطارات فنزويلا وطائراتها ستكون من أول الأهداف المحتملة في أي صراع، لا سيما بعد نشر الولايات المتحدة لمقاتلات شبح من طراز F‑35 في المنطقة، التي تهدف إلى مواجهة مناورة الطائرات المقاتلة الفنزويلية ونظام دفاعها الجوي.
على الأرض، تُظهر التحليلات أن فنزويلا تمتلك حضوراً عسكرياً أكبر ونيراناً أكثر بكثير من القوى الأميركية المحدودة المتمركزة قبالة السواحل. وفق بيانات Global Firepower، من بين إجمالي سكان يقارب 31 مليون نسمة، يبلغ قوام القوى المسلحة الفنزويلية نحو 337 ألف عنصر؛ منهم 109 آلاف عناصر نشطة في القوات النظامية، وحوالي 220 ألف في تشكيلات شبه عسكرية، ونحو 8 آلاف في الاحتياط. لكن الخبراء يحذّرون من أن هذه الأرقام تخفي واقعاً أكثر إزعاجاً: فالقوات تعاني سنوات من نقص التدريب القتالي المتخصّص، وانصرفت إلى التركيز على الأمن الداخلي، ما حدّ من جاهزيتها للقتال التقليدي. وبحرياً، لا تستطيع البحرية الفنزويلية مجابهة التفوّق الأميركي وسيطرته شبه المطلقة على البحر.
يتفق المحلّلون على تفوّق الولايات المتحدة العسكري بشكل كبير. كما قال فيرير: لا أحد يضاهي القوة العسكرية الأميركية في الحرب التقليدية، وما ينبغي التفكير فيه في حالة فنزويلا هو قدرة القوّات المحلية على المقاومة أو على تحويل البلاد إلى مكان يصعب إدارته. يمكن لهذه القدرات أن تجعل أي تدخل مكلفاً جداً، وهذه هي استراتيجيّة النجاح في حرب لا متماثلة.
هل تستعد الولايـات المتحدة لشن هجوم على فنزويلا؟
برّر الرئيس السابق دونالد ترامب التعزيزات العسكرية الأخيرة بحاجتها إلى الحدّ من تدفّق المخدّرات إلى الولايات المتحدة، لكن كثيراً من المحلّلين يرون في ذلك وسيلة لزيادة الضغوط على مادورو. الرئيس الأميركي كرّر أنه لا ينوي غزو فنزويلا، ويرى كارلوس بينا، عالم السياسة الفنزويلي، أن الاستراتيجية المفضلة لواشنطن تظل سياسية أكثر منها عسكرية.
قال بينا إن الخيار الرئيسي للولايات المتحدة لا يزال ممارسة ضغط كافٍ لدفع مادورو إلى الاستقالة وتسليم السلطة سلمياً، وإن هذا الخيار يظل الأكثر رغبة من منظور واشنطن. ولفت إلى أن مادورو يدرك هذا ويتصرّف على هذا الأساس: فهو يسعى لرفع تكلفة أي تدخل محتمل، ويعوّل على أن غزواً عسكرياً — حتى لو تمّ نقاشه على المستوى الخارجي — قد لا يحظى بترحاب إقليمي أو شعبي داخل البلاد.
إلا أن بينا حذّر من أن حجم الترحيل والتجهيز العسكري الأميركي في المنطقة يخلق ضغوطاً سياسية داخل واشنطن ذاتها؛ فبعد إرسال هذا الكمّ من العتاد والمعدّات إلى البحر الكاريبي، سيكون من الصعب سياسياً ودبلوماسياً على إدارة أميركية التراجع والقول إنها لن تفعل شيئاً، ومن ثمّ قد يلجأ القادة إلى خطوات تصعيدية لتفادي ما يعتبرونه هزيمة. ولذلك يتوقّع بينا استمرار تصعيد الضغوط العسكرية — إضافة سفن ومروحيات وطائرات وربما قوات — كجزء من محاولة دفع نحو تغيير سياسي أو بدء مرحلة انتقال.