لماذا يلتزم العديد من علماء إبادة البوسنة الصمت تجاه غزة؟ في سياق الصراع الإسرائيلي الفلسطيني

تمر هذه السنة ثلاثة عقود على نهاية الحرب في البوسنة والهرسك، التي راح ضحيتها ما يُقدَّر بنحو مائة ألف قتيل. بلغت الحرب ذروتها في إبادة سربرِنِيتسا في يوليو 1995، حين ارتكبت قوات صرب البوسنة، بقيادة الجنرال راتكو ملاديتش، الملقَّب بـ«جزار البوسنة»، مجزرة أودت بحياة أكثر من ثمانية آلاف رجل وصبي داخل «منطقة آمنة» أُعلنتها الأمم المتحدة.

على مدى العقود التالية، استمعت محكمة الجرائم الدولية ليوغوسلافيا السابقة إلى مئات الشهود وأدانت عشرات القادة السياسيين والعسكريين الصرب في البوسنة، بمن فيهم من حُكم عليهم بارتكاب جرائم إبادة. وفي الوقت نفسه أنفقت دولة البوسنة والهرسك والمتبرعون الأجانب موارد كبيرة على الدراسات، واستعادة رفات الضحايا، وإحياء ذكرى الإبادة.

عندما اندلعت الإبادة في غزة، رأت كثير من الناجين البوسنيين من حرب 1992–1995 تشابهاً لافتاً بين تجاربهم ومعاناة الفلسطينيين؛ فتظاهر كثيرون ونابوا عن رفضهم للحرب التي تُوصَف بالإبادة في فلسطين.

مع ذلك، صمت العديد من المثقفين البوسنيين، وخصوصاً الباحثين المتخصصين في جرائم الحرب والإبادة. وامتناعهم عن التصريح لا يضر فقط بجهود تحقيق العدالة في غزة، بل يضعف أيضاً حقل دراسات الإبادة نفسه.

أصوات الضمير

قبل أن نتلمس أسباب توقُّف حديث الباحثين البوسنيين عن غزة، لا بد من الإشارة إلى أنهم لم يكونوا جميعاً صامتين. هناك مجموعة صغيرة نسبياً من الباحثين البوسنيين الذين يجمعون بين الالتزام الأكاديمي والنشاط المدافع عن فلسطين وحقوق الإنسان فضَّلوا التعبير عن موقفهم.

أستاذات وباحثات جامعيات، منهن ليلى كريشيفلياكوفيتش، سانيلا تشيكيتش باشيتش، جورانا مليناريفيتش، جاسنا فتاهوفيتش، وسانيلا قائدانوفيتش، أكدن أن ثمة مسؤولية أخلاقية تمنع البقاء في صمت. قدن بالاحتجاجات وخرجن إلى العلن للدفاع عن مبادئ التضامن والحق.

انتقدت بيلما بولجوباشيتش، أستاذة في كلية العلوم السياسية بجامعة سراييفو، الزعماء الأوروبيين وغيرهم الذين يبدون تعاطفاً مع سربرِنِيتسا وفي الوقت نفسه يبرّرون أعمال إسرائيل في غزة بدعوى «الدفاع عن النفس». وقالت إن هذه المعايير المزدوجة تعبّر عن براغماتية مزعجة تقوّض التضامن والمساءلة على حد سواء.

يقرأ  الجيش الإسرائيلي يستهدف ١٤٠ هدفًا إرهابيًا في قطاع غزة ويكثف هجومه على مدينة غزة

في حديثٍ حديث، لاحظت إدينا بيتشيريفيتش، باحثة متخصّصة في دراسات الإبادة بكلية العلوم الجنائية والجنائية والدراسات الأمنية في جامعة سراييفو، أن ما يحدث في غزة يعكس بوضوح عناصر ديناميكيةٍ شبيهة بتلك التي شهدناها في سربرنِيتسا: تجريدٌ من الإنسانية، تعبئة أيديولوجية، وتواطؤ دولي.

أحمد أليباشيتش، مدير مركز الدراسات المتقدمة وأستاذ في كلية الدراسات الإسلامية بجامعة سراييفو، كان صريحاً أيضاً؛ فقد شارك في تنظيم ندوة بعنوان «من البلقان إلى غزة: تحليل نقدي للإبادة»، تناولت ديناميات العنف الجماعي المعاصرة عبر مقارنة إبادة سربرنِيتسا وحصار سراييفو وما يحصل الآن في غزة.

الصحفية والباحثة الإعلامية نِجَارَا أحمدتاشيفيتش لم تتردّد أيضاً في ربط تجارب سكان غزة بتجارب الناجين البوسنيين من حصار سراييفو وسربرنِيتسا.

لأشهر متتالية، نظمت مجموعة سراييفو النسوية المناهضة للعسكرة احتجاجات في وسط المدينة، تقرأ فيها أسماء الأطفال الذين قتلوا في غزة، مساهمة في ربط جرائم الحرب في الأراضي الفلسطينية المحتلة بمآسي الحرب التي عرفتها سراييفو.

استجابة هؤلاء الأفراد تنبع من مناشدة المستشرق الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد بأن يطالب المثقفون بمحيط الكلام على السلطة، وصل الذاكرة المحلية بالعدالة العالمية ومقاومة سياسة سرد الحقائق المريحة. يظل الصمت خياراً سياسياً يضرّ بغير حياد.

«ليست معركتنا»

ومع ذلك، لم تحفز دعوة سعيد الجميع للتحرك. ومن المفارقات أن عدداً كبيراً من باحثي الإبادة البوسنيين ظلوا صامتين، بينما اتخذ زملاء لهم في الخارج مواقف واضحة؛ من بينهم باحثون إسرائيليون في دراسات الإبادة الذين اتهموا إسرائيل علناً بارتكاب إبادة في غزة. ولم يتغير ذلك حتى بعد أن أصدرت الجمعية الدولية لعلماء الإبادة، أكبر هيئة أكاديمية في المجال، قراراً في أغسطس اعتبر أن أفعال إسرائيل في غزة تشكل إبادة.

امتنع خبراء متعددون عن التعليق ــ من معهد الأبحاث حول جرائم ضد الإنسانية والقانون الدولي في جامعة سراييفو، إلى محاضرين في كلية الحقوق وباحثين في معهد التقاليد الإسلامية للبوشناق. كمؤسسة، تكلّم المعهد عن غزة علناً فقط بعد اقتراب هدنة، فتبيَّن أن بيانه لم يذكر إسرائيل بصفتها الجهة الفاعلة في الفظائع، فاعتبره بعض المراقبين بياناً مراوغاً وم oportunistic انتهج سياسة حساباتية.

يقرأ  مصادر عسكرية إسرائيلية: نزوح حوالي 800 ألف شخص من مدينة غزة

أبرز الأمثلة على الصمت ربما حالة أمير سولوجاجيتش، الناجي من الإبادة ومدير مركز ذكرى سربرنِيتسا. عندما سئل عن موقفه من غزة أواخر 2023، قال لصحيفة هآرتس: «ليست معركتنا».

سرعان ما استنكر العديد من المراقبين مواقفه، وأشاروا إلى ازدواج المعيار في تصريحاته، لا سيما بعد أن دعا قبل ذلك بسنة الأوكرانيين إلى مواصلة الكفاح وعدم الاستسلام. تحت قيادته أعد مركز سربرنِيتسا دراسات حالة ممولة من الحكومة البريطانية حول أوكرانيا وسوريا وجنوب السودان وإثيوبيا، سلطت الضوء على مؤشرات الإنذار المبكر للعنف الجماعي والإبادة.

عندما عبّرت الجالية الفلسطينية في البوسنة والهرسك عن استغرابها من افتقار تضامن سربرنِيتسا مع أهل غزة، وتساءلت عما إذا كانت علاقات المركز بالمجلس اليهودي العالمي أثّرت في صمته، ردّ سولوجاجيتش باتهامهم بمعاداة السامية. بل ذهب إلى حد مقارنة أعضاء حماس بشتانكِيك، قوات قومية صربية وملكيّة تعاونت في أوقات مع الفاشيين الألمان والإيطاليين، والمسؤولة عن فظاعات واسعة ضد المسلمين البوسنيين.

ثمن الصمت

صمت كثير من علماء الإبادة في البوسنة ليس حدثاً اعتباطياً. يخشى بعضهم من عواقب مهنية في الأوساط الأكاديمية الغربية، ويعتقدون أن اتهام إسرائيل بالإبادة قد يضّر بمساراتهم المهنية. يتردّد آخرون في المخاطرة بالتمويل الخارجي من سفارات ومانحين غربيين، خصوصاً الدعم الأمريكي والبريطاني والأوروبي الذي يُموّل مشاريعهم ومنظماتهم غير الربحية. يخشى بعضهم فقدان تأييد شركاء دبلوماسيين ما زالوا يؤثرون في هشاشة السلام في البوسنة.

ولا يبرِّر هذا صمت باحثين يعملون في مؤسسات تُموّل من دافعي الضرائب البوسنيين لا من متبرعين أجانب. فباحثو الإبادة الذين تُبقيهم أموال عامة ملزمون بخدمة المصلحة العامة، بما في ذلك الحفاظ على النزاهة العلمية، والدفاع عن بحوث الإبادة القائمة على الأدلة، والمساهمة في التوافق العلمي العالمي بلا خشية من تداعيات مهنية.

يقرأ  إسبانيا تقدّم مساعدات حكومية لضحايا الحرائق مع استمرار اندلاع حرائق متعددة

عندما يفشل الأكاديميون وباحثو الإبادة والمحاضرون في المؤسسات العامة في التصريح حول جرائم الحرب أو الأزمات الإنسانية، فإنهم يسهِّلون إضفاء الشرعية على خطاب يخفي الأذى. ذلك الخطاب يؤطّر بعض أعمال العنف الجماعي كأنها أقل استحقاقاً للتمحيص مقارنة بحالات أخرى، ويخلق هرمية في ضحايا تَخدم مصالح سياسية بدل المبادئ العالمية والنزاهة العلمية.

تبقى دعوة سعيد للمثقفين بالتصريح صالحة وعاجلة؛ فهي تذكير بضرورة تجاوز صمت التعايش المريح، وكشف تحريفات السلطة، والمطالبة بالعدالة والشفافية والمساءلة. الصمت، في نظره، شكل من أشكال التواطؤ يقوّض السعي إلى الحقيقة الذي يفاخر به الوسط الأكاديمي.

بناءً على ذلك، لا يجوز للمثقفين العموميين أن يسمحوا لأنفسهم بالدخول في مقامَصات سياسية تُبادَل فيها الصمت عن إبادةٍ ما مقابل الاعتراف بإبادة أخرى. وإذا صار نشاطهم انتقائياً، فإنهم يحوِّلون دراسات الإبادة إلى أداة سياسية، ويلغون استقلالية الباحثين ويُنزِلون عنهم ذلك الموقع الأخلاقي الذي يدّعون التمسك به.

من خلال إبراز غزة ضمن السياق البوسني، ندعو إلى تجديد أخلاقيات المسؤولية الفكرية والنزاهة، وربط التمييز العلمي بالمساءلة العامة والسعي إلى عدالة إنسانية.

الآراء الواردة في هذا النص تعكس آراء كاتبيه ولا تعبّر بالضرورة عن سياسة التحرير لدى الجزيرة.

أضف تعليق