بادوفا، ايطاليا — عبدالله، طفل في العاشرة من عمره، نادراً ما يرفع بصره عن لوحته الإلكترونية بينما يغوص في لعبته المفضلة التي تصنع له كوناً افتراضياً يُتيح له أن يكون أي شيء يتخيله.
صوت تنبيه جهاز ضخ العلاج الكيميائي الذي يزود جسده بالأدوية يقاطعه أحياناً؛ يلتقط الشاحن المتصل بالجهاز بسرعة ثم يعود لاستكمال اللعب.
قصص موصى بها
تقول والدته، إيمان إسماعيل محمد أبو مازِد، إن عادة الألعاب الإلكترونية انتقلت إليه بعد أن غادروا غزة في 14 مايو متجّهين إلى مدينة بادوفا لتلقّي علاج ينقذ حياته من اللوكيميا. في دير البلح، المدينة التي كانت دارَهم، كان طفلاً شديد الاختلاط بالناس، “دائماً في الشوارع يلعب كرة القدم مع إخوته وأقرانهم”، هكذا وصفتها إيمان، ثم قلبت هاتفها بحثاً عن صورة تذكّرها بمظهره قبل الرحيل.
في الصورة الثلاثية المتهندمة، ينظر الأطفال إلى الكاميرا بوجوه مرتبة؛ عبدالله يحتفظ بنفس الهدوء في نظراته، لكن شعره أصبح أطول ولون بشرته يميل إلى الصفرة. إلى جانبه يظهر محمد الذي أصبح الآن في الحادية عشرة، وماحمود في الثامنة، وفوقهم بأكتافه الفخورة يقف والدهم أحمد.
السرطان الذي يجتاح جسد عبدالله مزّق أسرته من الداخل أيضاً.
بينما نُقِل عبدالله، ووالدته إيمان، وطفلتهما قمر التي تبلغ عاماً واحداً على متن رحلة إخلاء طبي أخذتهم إلى إيطاليا، بقي بقية أفراد العائلة — أحمد والإخوة الآخرون محمد وماحمود — في غزة التي لا تزال تتعرّض للقصف رغم وجود اتفاق هدنة.
ربما تكون المرض هي النافذة التي تعيد شملهم. في أوائل نوفمبر، جمع أطباء في غزة عينات دم من أشقاء عبدالله وأرسلوها إلى إيطاليا لمعرفة مدى التوافق كمتبرعين لنخاع العظم. إن وَجد أحدهم مطابقة، سيسمح لهم بالانضمام إلى رحلة طبية إلى بادوفا؛ وإن جاءت النتائج سلبية، فسيتوجب عليهم التقدّم بطلب لم شمل إلى الحكومة الإيطالية — إجراء أطول ومعقَّد لوجستياً.
تقول إيمان إن مصير العائلة معلق بتلك النتائج؛ قد تنقذ عبدالله من المرض، وقد تحمي الباقين من حرب إسرائيل التي تصفها بـ«الابادة» في غزة. «أخاف عليهم كل يوم»، تقول. «عبدالله يشتاق لإخوته، وأنا أشتاق لأطفالي أيضاً.»
أومأ عبدالله خجولاً موافقاً وأضاف أنه يفتقد أيضاً لكباب مطهو بشكل جيد. لا يملك مزاجاً للطعام الإيطالي، ويتذكر بتأنٍّ طعم اللحمة المتبلة من مطعمهم المفضّل في دير البلح. وعندما سُئل إن كان يريد أن ينقل غزة إلى بادوفا، رد مبتسماً: «ليس كلّها، فقط حيي.»
الهروب من الحرب في غزة
اكتشفت إيمان حملها بقمر في مارس 2024 بينما الحرب تشتعل من حولها. في البداية ظنت أن دورتها تأخرت لأنهم كانوا بالكاد يقتاتون على الماء والخبز. حين تأكدت أن طفلاً رابعاً في الطريق، تذكرت شعوراً بالرعب والقلق: «كنت خايفة طول الوقت، أظنّ إنو الجنين بطلّع مشوّه، أو مريض، لأن الأكل والمرافق منعدمان.» جسدها أنهكه التعب حتى لم تعد تقوى على النهوض؛ قضت أيام حملها مستلقية على الأرض، تروي إيمان بسرعة بالعربية، ثم تنحني لتأخذ الطفلة الصغيرة التي تسحب ثوبها بإصرار لتضعها على حجرها وتطعمها.
وُلدت الطفلة في مستشفى ميداني مقامات بالخيام في دير البلح يعاني من شحّ في النظافة والأدوية، بينما كان الجرحى يزحفون إليه إثر الغارات. «تشوف الواحد مخدوم على أي لحظة — طرف مبتور، يد منفصلة… المشاهد كانت مرعبة.» وتضيف أن الأطباء بدوا مترقّبين لأنّ المنطقة كانت مستهدفة.
بعد شهور، في أبريل من العام نفسه، بدأ عبدالله يشعر بتوعك: اصفر وجهه، آلام في البطن، صداع. في مستشفى الأقصى في دير البلح وُضع على المحاليل وتلقّى المسكنات والمضادات الحيوية. حوّلت السوائل دون ارتفاع حاد في الحُمّى، لكنّ شيئاً لم يوقف امتداد السرطان.
نُصحوا بنقله إلى المستشفى الأوروبي في خان يونس رغم إعلان الجيش الإسرائيلي توسيع عمليات عسكرية كبيرة هناك. الرحلة الجنوبية البالغة عشرة كيلومترات كانت «مخيفة»، كما تذكر إيمان: «لم يكن في الشارع أحد.» لم يتمكن الأطباء إلا من تقديم جرعات مخففة من الكيمياوي، ثم جرى إحالة حالة عبدالله إلى منظمة الصحة العالمية لطلب إخلاء طبي.
فُوجئوا بالموافقة على الإخلاء بعد فترة وجيزة. لم تكن الحاجة إلى كلام كثيرة بين إيمان وأحمد لاتخاذ قرار الانقسام المؤلم للعائلة. «كان هناك صمت أكثر من الحوار»، تقول.
وصل أحمد إلى المستشفى الأوروبي في 13 مايو ليودّع إيمان وعبدالله وقمر؛ وبينما كان يغادر الطابق اهتزّت الأرض وطار لوح خرساني بالقرب من رأسه. في ذلك اليوم أعلن الجيش الإسرائيلي أنه أسقط تسع قنابل مخرّبة ومئات الذخائر في فناء المستشفى ومحيطه، وزعموا أنهم قتلوا قياديّاً في حماس يدعى محمد سنوار وأكثر من عشرين عضواً آخرين. القوانين الدولية تحظر استهداف المستشفيات وتعتبره جريمة حرب. أكدت حركة حماس لاحقاً في أغسطس وفاة سنوار لكن دون تفاصيل عن طريقة الوفاة.
تذكرت إيمان أنها توقعت مقتل زوجها: «كنت أتصل وأصرخ وأقول: والله راح،» وتضيف: «كلمته عشرة مرات وما ردّ، كنت متأكدة إنه استشهد. لكني لم أستسلم، وبعد محاولات كثيرة أجاب في النهاية.»
حياة جديدة بعيداً عن الوطن
عبدالله واحد من أكثر من 5,500 طفل نُقلوا من غزة عبر إخلاءات طبية نظمتها منظمة الصحة العالمية. وحتى الآن غادر نحو 8,000 شخص لتلقّي علاجات تنقذ حياتهم، بينما لا يزال 16,500 ينتظرون بحسب أرقام الأمم المتحدة. من بينهم ٣٨٠٠ طفل.
منذ يوليو ٢٠٢٤، توفي أكثر من ٩٠٠ مريض أثناء انتظارهم لعمليات الإخلاء الطبي، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية.
نُقل عبدالله إلى بادوفا بفضل إصرار المحامية ريبيكا فيدتو، التي أسَّست في فبراير منظمة لتسهيل ودعم عمليات الإخلاء الطبي.
«كنت أعلم أنني أريد أن أفعل شيئًا وأكون فاعلة»، قالت فيدتو للجزيرة. «لم أستطع أن أعيش حياة طبيعية، فضميري لم يكن يسمح بذلك».
باشرت فيدتو إجراء الاتصالات مع كل من قد يساعدها في تجاوز متاهة الأوراق والموافقات والتنسيق اللازم لإصدار إحالة لنقل المريض إلى منشأة طبية في الخارج.
«في لحظة شعرت أنني لن أنجز الأمر؛ كان كل شيء معقّدًا للغاية»، أضافت. «عندما بدأت الأمور تسير على ما يرام، لم أصدق ذلك».
منظمتها غير الربحية Padova Abbraccia i Bambini (بادوفا يعانق الأطفال) سهّلت ست عمليات إخلاء طبية واستقبلت ٢٥ شخصًا. من بينهم أحمد (ست سنوات) الذي يتعافى من حروق من الدرجة الثالثة طالت نحو نصف جسده، وسيلا (ثماني سنوات) التي فقدت ساقيها.
فريق من المتطوعين يلبي كل احتياجات العائلات، مقدمًا النقل، ورعاية الأطفال، والتعليم المنزلي والدعم النفسي.
قالت فيدتو إن ردّ فعل المدينة كان مرحبًا إلى حدٍ كبير.
«كتب إلينا كثيرون يسألون إن كان بإمكانهم المساعدة، لأن هذه الحرب تمس ضمائرنا»، قالت. «غالبًا ما يرغب الناس في المساندة، لكنهم لا يعرفون كيف».
ناشدت منظمة الصحة العالمية الدول بتقديم مزيد من عمليات الإخلاء الطبي، إذ تظل خدمات الرعاية الصحية في غزة محدودة؛ ففقط ١٨ مستشفى من أصل ٣٦ تعمل جزئيًا.
حتى الآن استجابت أكثر من ثلاثين دولة للدعوة، منها دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي وقطر والأردن ومصر والإمارات العربية المتحدة.
«نحن ممتنون لتضامنهم»، قال ريك بيبركورن، ممثل منظمة الصحة العالمية في الأرض الفلسطينية المحتلة.
وأوضح بيبركورن أنه بموجب شروط وقف إطلاق النار، ينبغي أن تتمكن منظمة الصحة العالمية من إجلاء ٥٠ مريضًا يوميًا بالإضافة إلى مرافقهم.
وأضاف: «لتحقيق ذلك، يجب على مزيد من الدول أن تتقدم بسخاء وتقبل استقبال المرضى المحتاجين».