قضية عالم الآثار الروسي ألكسندر بوتياجين، المحتجز حالياً في وارسو بانتظار قرار قضائي بولندي بشأن طلب تسليمه إلى أوكرانيا، أشعلت مناقشة حادة حول دور المتاحف والخبراء العلميّين وحدود مسؤولياتهم حين تتقاطع أعمالهم مع سياسات الدولة وادعاءات الدعاية الحربية الكرملينية.
بوتياجين، الباحث البارز في متحف الهرميتاج في سانت بطرسبرغ، يقود بعثة التنقيب في موقع ميرميكيون بالقرم منذ 1999، أي قبل احتلال روسيا لشبه الجزيرة في 2014. البعثة عثرت على مئات القطع النقدية الأثرية، بعضها يعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد من عصر الإسكندر الأكبر، والموقع نفسه مؤرخ إلى القرن السادس قبل الميلاد، حين استقر اليونانيون القدماء في المنطقة في وقت تشكّل الديمقراطية الأثينية.
لاحقاً افتتح المدّعي العام الأوكراني تحقيقاً بخصوص عمله دون تفويض من السلطات الأوكرانية. وفي نوفمبر 2024 ضُعي اسمُه على قائمة المطلوبين، ثم أصدرت محكمة في كييف في أبريل 2025 أمراً بالاعتقال غيابياً بتهم تتعلق بالحفر غير القانوني و”التدمير الجزئي غير القانوني” لمجمع أثري. من ناحية أخرى، تُثير قواعد بروتوكول لاهاي الثاني لحماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات المسلحة مسألة أن سلطات الاحتلال يجب أن تمنع الحفريات الأثرية باستثناء حالات ضيقة جداً، وهو بروتوكول تسري عليه كل من بولندا وأوكرانيا بينما روسيا ليست طرفاً فيه.
ينقسم الرأي العام والخبراء بشأن بوتياجين. يؤكد مؤيدوه، بمن فيهم بعض المنتقدين للنظام الروسي، أن عمله هدفه الحفاظ على التراث وأن الامتناع عن الحفر كان سيترك الموقع عرضة للنهب وبيع الآثار في السوق السوداء. من جهتهم، يعتبر معارضوه عمله استغلالاً للاحتلال وعملاً أقرب إلى النهب، معتبرين أن المشاركة الرسمية للمؤسسات الروسية تشرعن اقتطاعاً من تاريخ أوكرانيا.
يقول إيفلينا كرافشنكو، باحثة كبيرة في معهد الآثار بالأكاديمية الوطنية للعلوم الأوكرانية، إن “الحفريات مهما بدَت أخلاقية تتحول إلى فعل تدميري إذا جرت دون ترخيص وبظل حالة صراع مسلح”، وتضيف أن انتهاكات اتفاقية لاهاي هي أصل مشاكله. من جهة أخرى يرى غليب بوغوش، الباحث في قانون السلام والأمن الدولي بجامعة كولونيا، أن المسؤولية الأساسية تقع على الدولة الروسية ومؤسساتها أكثر من الفرد الحقلّي، إذ لم يكن من اختصاص علماء الآثار وحدهم تقرير استمرار البعثة أو إيقافها.
المتحف نفسه يدافع عن شرعية عمل بوتياجين، ويؤكد أن جميع القطع المكتشفة بقيت في القرم ونُقلت إلى متحف القرم الشرقي في كيرتش، وأن النقل إلى روسيا يقتصر على أعمال ترميم أو إعارات عرض مؤقتة. لكن هذا التبرير يتصادم مع القانون الأوكراني الذي ينص على دخول الاكتشافات إلى صندوق المتاحف الأوكراني، بينما أدت الواقعة العملية لضم مقتنيات متحف القرم الشرقي إلى صندوق المتاحف الروسي إثر الضم غير القانوني لشبه الجزيرة.
إضافة إلى الخلاف القانوني، ثمة بُعد سياسي وقيمي: مدير الهرميتاج ميخائيل بيوتروفسكي أعلن تأييده لفلاديمير بوتين والغزو، ما أعطى التناقض أبعاداً تثير الشكوك حول ميل المؤسسات الثقافية إلى التوافق مع سياسات الدولة. ويؤكد سامويل أندرو هاردي، عالم الجريمة البريطاني المتخصص في حماية الممتلكات الثقافية في مناطق النزاع، أن الحفر الرسمي لا يوقف بالضرورة نشاطات اللصوص، وأن بعض المنافذ الإجرامية تستهدف المواقع المنقّبة أصلاً، لكنه يرى أن تبرير استمرار العمل باعتباره الوسيلة الوحيدة للحفاظ على الآثار هو حجة تمكّن الدولة المحتلة من شرعنة أفعالها.
وتبقى المسألة العملية ذات طابع قضائي معقد: منذ بدء الحرب رفضت محاكم أوروبية عدة طلبات أوكرانية لتسليم مواطنين روس بدعوى مخاطر محتملة تتصل بالاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان—من اضطهاد سياسي إلى حرمان من محاكمة نزيهة أو التعرض للتعذيب والمعاملة غير الإنسانية. حتى إن حصلت محكمة بولندية على أدلة كافية للموافقة على التسليم، فقد تعترض اعتبارات حقوقية وإجرائية قد تحول دون تنفيذه، كما حدث في حالات سابقة مثل قرار محكمة دنماركية في يونيو الماضي برفض تسليم مشتبه به روسي للتجسس.
في خضم هذا الجدل، تبرز أسئلة أخلاقية وقانونية أساسية حول حدود مسؤولية علماء الآثار والمؤسسات الثقافية في سياق الاحتلال: هل يبرّر الحفاظ المؤقت على الآثار المشاركة مع سلطات احتلال؟ أم أن الامتثال لمقتضيات حماية التراث يتطلب رفض أي تعاون يشرعن انتهاك سيادة البلد الأصلي؟ تزخر القضية بمتناقضات لا تزال على المحك، وحكم المحاكم الأوروبية وبولندا سيحددان في النهاية مدى تأثير المعايير القانونية الدولية والاعتبارات الإنسانية على مستقبل حالات مماثلة.