نموذج ذكاء اصطناعي يتنبأ بالمخاطر الصحية حتى عقد قادم
تمكّن باحثون من تطوير نموذج ذكاء اصطناعي يقرأ أنماطاً خفية في سجلات المرضى الطبية ليقدّر احتمالات الإصابة بمجموعة واسعة من الأمراض على مدى سنوات مقبلة. النموذج، المسمى Delphi-2M، يقدّر مخاطر أكثر من ١٬٢٣١ مرضاً، ويشبه في فلسفة عمله توقعات الطقس — على غرار قولنا إن احتمال هطول المطر ٧٠٪ — إلّا أن التنبؤ هنا يخص الصحة البشرية.
كيف يعمل النموذج؟
التقنية المستخدمة تعتمد على مبادئ مماثلة لتلك التي تُدرّب بها برامج المحادثة الشهيرة مثل ChatGPT: تعلم التعرف إلى أنماط متتالية في البيانات لتوقّع ما سيأتي تالياً ومتى تقرّب حدوثه. لكن Delphi-2M تم تدريبه على سجلات طبية مجهولة المصدر بدل النصوص اللغوية، ليتمكّن من توقع مسارات المرض واحتمالاتها على مدى زمني بعيد. النموذج لا يعلن تواريخ دقيقة (مثلاً: احتشاء عضلة القلب في 1 اكتوبر) بل يقدّم احتمالات كمية لكل حالة.
مصادر البيانات والاختبار
بدأ التدريب باستخدام بيانات من مشروع UK Biobank في المملكة المتحدة، شاملة دخول المستشفيات، سجلات الأطباء العامين، وعوامل نمط الحياة مثل التدخين، استُخدمت بيانات من أكثر من ٤٠٠٬٠٠٠ شخص. بعد ذلك خضع النموذج لاختبارات على مشاركين آخرين من نفس المشروع ثم على سجلات طبية لـ١٬٩٠٠٬٠٠٠ شخص في الدنمارك، حيث أظهر أداءً ممتازاً من ناحية الموثوقية والمعايرة. كما بيّن الباحثون أن تقديراته متقاربة جداً مع النتائج الفعلية؛ فإذا قدّر النموذج احتمالاً واحداً من كل عشرة خلال سنة قادمة، فالتجربة أظهرت أن ذلك الاحتمال يتحقق تقريباً بمعدل واحد من كل عشرة.
أين يبرع وأين يضعف؟
يتفوق النموذج في التنبؤ بأمراض ذات مسار تقدمي واضح مثل داء السكري النوع الثاني، النوبات القلبية، والتعفن الدموي (الإنتان المزمن)، لكنه أقل قدرة في توقع أحداث عشوائية أو قصيرة الأمد مثل بعض أنواع العدوى المفاجئة.
كيف يمكن استخدام النتائج؟
الهدف المستقبلي هو استخدام هذه التنبؤات لانتقاء المرضى ذوي الخطورة العالية مبكراً، ما يتيح تدخلات وقائية—دوائية أو نصائح مخصّصة في نمط الحياة، مثل تقليل استهلاك الكحول لأولئك المعرضين لأمراض كبدية—وكذلك لمساعدة المستشفيات وخطط الصحة العامة في تقدير الطلب المستقبلي على الخدمات (مثلاً: كم هجوماً قلبياً متوقعاً في نورويتش عام ٢٠٣٠) لتخطيط الموارد بكفاءة.
آراء الباحثين والتحفظات
يؤكد بروفيسور إيوان بيرني، المدير التنفيذي المؤقت للمخبر الأوروبي لعلم الأحياء الجزيئي، أن هذه الطريقة تفتح آفاقاً جديدة لفهم المسارات المرضية: «بإمكاننا الآن تقدير مخاطر جميع الأمراض في آن واحد — شيء لم نتمكن من تحقيقه سابقاً». كذلك رأى بروفيسور موريتز غيرستونغ من مركز أبحاث السرطان الألماني أن النماذج المولِّدة قد تساعد ذات يوم في تخصيص الرعاية والتنبؤ بالاحتياجات الصحية على نطاق واسع. وبالمثل، وصف بروفيسور غوستافو سودري من كلية كينغز في لندن البحث بأنه خطوة مهمة نحو نمذجة تنبؤية قابلة للتوسع ومفسّرة وأخلاقية.
مع ذلك، يحذر الباحثون من أن Delphi-2M لا يزال بحثاً يحتاج لمزيد من التحسين والاختبار والتنظيم قبل اعتماده سريرياً. ثمة مخاطر تحيز لأن البيانات الأساسية مستمدة أساساً من فئة عمرية محددة (٤٠–٧٠ سنة) في UK Biobank، مما قد يحدّ من قابلية تعميم النتائج على عموم السكان. يعمل الفريق حالياً على توسيع النموذج ليشمل مصادر طبية إضافية مثل التصوير الطبي، التحليل الجيني، وفحوصات الدم.
مسار محتمل للتبني
يشير بيرني إلى أن تبنّي هذه التكنولوجيا في الممارسة السريرية قد يتبع مساراً شبيهاً بمسار الاستخدام العام للبيانات الجينومية في الرعاية الصحية: عقد من الزمن بين الثقة العلمية والاعتماد الروتيني. الدراسة نشرت في مجلة Nature وكانت ثمرة تعاون بين المختبر الأوروبي لعلم الأحياء الجزيئي، مركز أبحاث السرطان الألماني (DKFZ)، وجامعه كوبنهاغن.