فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين بدا واثقاً من نفسه. متكئاً بين شخصيات أجنبية في منتدى اقتصادي، شرح رئيس الكرملين موتورية مقاومة أوكرانيا من وجهة نظره: التفوق الروسي على ساحة المعركة واضح، ورفض كييف لمطالبه سيجعل كلفة السلام أكبر على الاخرين. قال ما معناه أمام الحضور: «واصلوا، فالأمر سيزداد سوءاً»، وأضاف وهو يبتسم بنبرة استفزاز: «حيث تطأ قدم الجندي الروسي، فذلك لنا».
ثقة بوتين ليست بلا أساس؛ فقد أعيد إحياء القوة العسكرية الروسية بعد انهيارات 2022. في أعماق ذلك العام كانت قواته تعاني نقص المعدات والتنسيق، تتعرض للتدمير وتواجه تكتيكات أوكرانية مباغتة وصواريخ موجهة بدقة. لكن بدلاً من السحب، حشد بوتين الجهازَ الدولة كله خلف الحرب: أعاد هندسة الجيش والاقتصاد بهدف واحد صريح — سحق أوكرانيا. شملت جهود الحكومة إعادة تنظيم التجنيد، تصعيد إنتاج الأسلحة، وتعديل تكتيكات الخطوط الأمامية.
اليوم، الصراع يميل إلى حرب استنزاف تُصبِح فيها المعادلة لصالح روسيا، التي حشدت عدداً أكبر من الرجال والذخائر مقارنةً بأوكرانيا وحلفائها الغربيين. ومع تزايد الخسائر، تتقدم القوات الروسية على امتداد جبهة طولها نحو 750 ميلاً، ما يعزز تصميم بوتين على مواصلة القتال حتى يحصل على صفقة السلام التي يبتغيها. يطالب بوتين بشكل متكرر بأربع مناطق أعلنت موسكو ضمّها، ويرنو إلى اتفاق يمنع اوكرانيا من الانضمام إلى الناتو ويقيد حجم قواتها العسكرية. وفي حال فشلت محادثات محتملة هذا الأسبوع في ألاسكا، أشار بأنه مستعد لاستعمال القوة لتحقيق ما تعجز عنه الدبلوماسية. كما قال للصحافيين هذا الشهر: «لقد أعلنت أهداف روسيا… وهذه الشروط تبقى بلا شك كما هي».
التجنيد
من مستشفى هاتفياً تحدّث رقيب روسي يُدعى فلاديسلاف عن المبالغ التي ينتظرها بعد فقدانه قدمه في اقتحام خنادق اوكرانية في يناير: مكافأة من حاكم الإقليم تعادل 6,400 دولار؛ 28,300 دولار من شركة التأمين الحكومية؛ 47,000 دولار من وزارة الدفاع، بالإضافة إلى معاش شهري تقاعدي للمحاربين القدّام يبلغ نحو 1,100 دولار — ما يتيح له التقاعد في قريته الغربية وهو في سن الثالثة والثلاثين. «لا تحتاج للعمل هناك بهذه الأموال»، قال فلاديسلاف، الذي طلب حفظ اسمه الكامل لأسباب أمنية.
رواتب الجبهات والمنح الكبيرة سمحت لآلاف المتطوعين بتحسين أوضاعهم المعيشية بسرعة: بناء منزل للوالدين، ترقية سياراته وسيارة شريكة حياته، وتأمين مستقبل أطفاله. مئات الآلاف من المتطوعين الممولين جيداً، أمثال فلاديسلاف، غيّروا ملامح الجيش الروسي.
الهزائم المبكرة في 2022 أفرغت صفوف الضباط المهنيين، واستغلت أوكرانيا ذلك في هجوم مضاد في سبتمبر كاد يعرقل الغزو. ردّ بوتين بإجراءات قاسية: أول تجنيد عام منذ الحرب العالمية الثانية (300,000 مجند رسمياً)، وتوسيع برامج العفو والدفع للمحكومين العسكريين، ما دفع نحو 100,000 سجين إلى الجبهات. هذه الإجراءات استقرت بالميدان لكن بثمن سياسي محلي — موجة احتجاجات وهجرة جماعية لتفادي التجنيد.
النجاح الجزئي لحملة السجون قدّم للكريملين نموذجاً بديلاً أقل قسوة يعتمد على المال واستدعاء تصور الرجولة. زادت الدولة بشكل كبير أجور الجنود، قدمت مكافآت تسجيل مغرية، وطرحَت سلسلة من الحوافز المالية، في حين صوّرت الدعاية الحكومية الخدمة العسكرية كفرصة فريدة للرجال على هامش المجتمع ليُثبتوا جدارتهم كمعيلين. اليوم تجنّد روسيا نحو 1,000 جندي يومياً — رقماً ثابتاً تقريباً منذ 2023، ونحو ضعفين من مستوى أوكرانيا.
لكن هذا القناع يخفي مشكلات بنيوية: كثير من أفضل الجنود الروسيين قُتلوا مبكراً. يُقدّر عدد القتلى الروس بنحو 230,000 منذ بدء الغزو استناداً إلى تجمع نعيين وتحليلات مستقلة. بدائلهم أقدم سناً وأقل خبرة؛ متوسط عمر الجندي الروسي القتيل ارتفع من نحو 28 إلى نحو 38 خلال السنة. وصف جندي آخر الألفاوية في بعض التجنيدات بأنها «أعذار اجتماعية»: مشردون ومدمنون ومنشقون عن القانون، وفحوصات صحية شكّلية. ضمور حوض التجنيد دفع المسؤولين الإقليميين لرفع الحوافز لتلبية الحصص، مما ضاعف العبء على الميزانيات المحلية وهدّد استقرار الاقتصاد الأوسع: إقليم ماري إل أنفق هذا العام على المكافآت أكثر مما أنفقه على الصحة.
الإنتاج
بعيداً عن الخطوط الأمامية، تسابق روسيا الزمن لرفع إنتاج الأسلحة والذخيرة والمركبات بمعدلات تتفوق على ما تفعله أوكرانيا وحلفاؤها الغربيون. الهدف واضح: الإطالة على العدو عبر تفوق صناعي. بوتين استند إلى شركاء أجانب (إيران، كوريا الشمالية، الصين) وشبكة مصانع أسلحة سابقة من الحقبة السوفياتية لتضخيم إمدادات كل شيء من الطائرات المسيرة إلى الصواريخ والدبابات. زاد الإنفاق العسكري بشكل حاد، رغم المخاطر الاقتصادية، ليبلغ أكثر من ثلث الميزانية الفدرالية.
تلقت أوكرانيا معدات حربية من شركائها بحوالي 70 مليار دولار، وزادت كييف إنتاجها المحلي، لكن الغرب لم يقم بتعبئة قاعدته الصناعية بنفس وتيرة روسيا. ميزانية الدفاع الروسية هذا العام تُقدّر بنحو 170 مليار دولار — أكثر من ثلاثة أضعاف ميزانية أوكرانيا.
لتحفيز الإنتاج، غمرت الدولة مصانـعها العسكرية بالقروض المدعومة، غيّرت قوانين العمل للسماح بالورديات الليلية وعطلات نهاية الأسبوع والعطل، واستنفرت مدارس مهنية ودولاً أجنبية وحتى سجوناً كمصادر للعمالة. وتحركت سريعاً بسلطة مركزية مستفيدة من نظام استبدادي وقطاع دفاعي لا يزال خاضعاً لسيطرة الدولة.
من بين المظاهر اللافتة منشأة لصناعة الطائرات المسيرة في يلابوغا (تتارستان)، حيث حوّل برلماني إقليمي «منطقة اقتصادية خاصة» خامدة لصناعة نسخة روسية موسعة من مسيّرات إيران من طراز شَهِد، بمساعدة تقنيّة إيرانية أولية. مؤسس المصنع يدّعي أن المرفق أصبح أكبر مصنع طائرات مسيرة عسكرية في العالم: «نشهد ثورة تكنولوجية… أصبحت الحروب بلا طيار»، قال ذلك على التلفزيون الحكومي. النسخة الروسية (جران-2) مُعاد هندستها لتحليق أعلى وحمل متفجرات أكثر، وأصبحت سلاحاً رئيسياً في حملة القصف ضد المدن الأوكرانية. إنتاج الجرّان تضاعف ثلاث مرّات منذ 2023 إلى نحو 80 طائرة يومياً بحسب تقديرات معهد RUSI البريطاني.
الزيادة في الإمداد سمحت بتصعيد الحملة الجوية: معدل إطلاق طائرات مسيرة ليلياً بلغ نحو 200 في الليلة خلال يوليو، وفي مناسبات تجاوز 700 مُسيّرة. كما أعادت روسيا إحياء مصانع سوفياتية غير مستغلة لتقوية إنتاج الأسلحة التقليدية وتحديث المعدات القديمة: أكثر من 1.3 مليون قذيفة مدفعية العام الماضي مقابل 250,000 في 2022؛ إنتاج صواريخ إسكندر قصير المدى تضاعف تقريباً ليصل إلى نحو 700 وحدة.
في الوقت نفسه، لا تزال روسيا بحاجة إلى مكونات مستوردة لأنظمةها الأحدث، ما يجعلها عرضة لعقوبات وتحولات في التحالفات. وتشير صور الأقمار الصناعية إلى تناقص مخزونات المعدات السوفياتية مما يجبرها على تصنيع دبابات ومركبات جديدة بتكلفة ووتيرة أبطأ.
التكتيكات
بحلول أواخر 2023 استعادت الجيش الروسي توازنه النسبي لكنه ظل يعاني تبعات الفساد وسلاسل التوريد المعيبة التي أبطأت العمليات وبثّت السخط. في مايو 2024 أقال بوتين وزير دفاعه الطويل الخدمة سيرجي شويغو، وشرعت النيابة في ملاحقة معاونيه بتهم فساد، واستبدله باقتصادي صارم بلا خبرة عسكرية يُدعى أندريه بيلوسوف. بدت أساليب بيلوسوف تكنوقراطية: تحسين سلاسل الإمداد، إدخال تكنولوجيا جديدة، وتعميق روابط الجيش مع رجال أعمال وعلماء — بهدف تحقيق ميزة حاسمة.
الجنود أبلغوا عن تحسّن كبير في توافر طائرات الاستطلاع من نوع «فيو-فرست» وأسلحة متقدمة بعد تعيينه، ما أتاح تجربة تكتيكات جديدة. في أغسطس الماضي أسّس بيلوسوف وحدة طائرات مسيرة متخصصة اسمها «روبِكون» موفَّرة بأفضل مشغلي الطائرات المسيرة وممولة سخياً، ومترابطة مع مخترعين ومصنّعين. مسلحة بطائرات أكثر قوة وعدداً، بدأت القوات الروسية تستهدف خطوط إمداد أوكرانية بشكل منهجي، ما صعّب إعادة تزويد الجبهات بالذخيرة، وإيصال التعزيزات، وإجلاء الجرحى.
غيرت قيادة بيلوسوف تكتيكات أخرى أيضاً: حسّنت الاتصالات بين الوحدات، وجربت استخدام الدراجات النارية، المركبات الوعرة، وحتى السكوترات الكهربائية. في هجوم هذا الصيف جربت روسيا إرسال مجموعات صغيرة متنكرة داخل خطوط العدو للاختباء في مبانٍ مهجورة أو وديان ثم شن هجمات منسقة — ما وصفه قائد الجيش الأوكراني بأنه «التسلل الكلي» وظهرت نتائجه في معاركٍ مثل بوكروفسك وفوخلِدار، حيث استُخدمت السيطرة على الحقول المحيطة للالتفاف على المدينة وتقطيع خطوط الإمداد، فسقطت بعد هجوم عام سريع انسحب الدفاع لتجنّب الحصار.
في فبراير 2025 أُرسل «روبِكون» إلى منطقة كورسك حيث كانت قوات روسية وحلفاؤها الكوريون الشماليون يكافحون ردّاً على هجوم أوكراني؛ قدّم الوحدة طائرات مسيرةً جديدة تُوجَّه بكابل بصري دقيق، ما يجعلها منيعة أمام تشويش الإشارة وغير قابلة للكشف عبر أنظمة رصد الطائرات المسيرة. كانت تُمكّن هذه الطائرات من الكمين لساعات على جوانب الطرق خلف خطوط العدو ثم مهاجمة أي حركة. حسب شهادة مقاتل قوات خاصة أوكراني، «دمروا كل اللوجستيات». وعندما شُنَّ الهجوم الروسي من محاور عدة في مارس، انهارت الدفاعات في بعض القطاعات.
يوسع بيلوسوف الآن روبِكون ويعدّ ببناء فرع كامل جديد سيُسمى «قوات الطائرات المسيرة» بحلول أكتوبر. بعد نجاحات في كورسك، نُقِلت الوحدة إلى دونيتسك محور الهجوم الحالي؛ وتقول مجنِّدة أميركية قاتلت إلى صفوف أوكرانيا إن «اللعبة تغيّرت بشكل جذري» عند وصولهم.
المنهجية
مصادر الفيديو في هذا التقرير جُمعت من قنوات تليغرام تنشر لقطات طائرات مسيرة للمواجهات على الجبهات، غالباً صادرة عن وحدات عسكرية روسية أو أوكرانية. رغم أن كثيراً منها استُخدم لأغراض دعاية، إلا أنها توضح التغيرات التكتيكية وكيف أعادت تقنيات الميدان تشكيل الحرب. المواد تعود إلى 2023 فصاعداً، بعد الانتشار الواسع لطائرات «فيو-فرست» المستخدمة في التقاط معظم هذه المشاهد.
خلاصة القول: روسيا أعادت بناء قدراتها العسكرية عبر تعبئة بشرية وتجهيزية وصناعية سمحت لها بتحويل مسار حرب الاستنزاف لصالحها موقتاً، لكن ثغرات اقتصادية واعتماداً على مكوّنات مستوردة ونقصاً متزايداً في الجنود ذوي الخبرة تبقي على سقف مخاطرتها سياسياً واستراتيجياً، بينما تظل مسألة استنزاف الموارد والوقت مفتوحة على احتمالات عدة.