لماذا يهم التعلم مع الآخرين: قراءة في نظرية البنائية الاجتماعية
تذكر لحظة في المدرسة شعرت فيها بأنّ فكرة ما انقشعت تمامًا أثناء عمل جماعي أو نقاش مع الزملاء. ربما أعطتك شروحات المعلم الأساس، لكن الحوار المتبادل مع الأقران هو ما عمّق فهمك وجعله مستدامًا. هذه بالضبط التجربة التي كان يفكر فيها عالم النفس الروسي ليف فيغوتسكي عندما صاغ نظرية البنائية الاجتماعية.
ما هي البنائية الاجتماعية؟
تفترض هذه النظرية أن التعلم ليس مجرد استيعاب معلومات أو حفظ حقائق، بل هو عملية نشطة لابتكار المعنى عبر التفاعل الاجتماعي، والتفكير في المحادثات، وربط الأفكار بخلفيات المرء الثقافية والاجتماعية. بعبارة أخرى، المعرفة تتكوّن بقدر ما يتفاعل الشخص مع الآخرين بقدر ما تتعلق بالمواد نفسها.
مبادئ توجيهية أساسية
– البناء على المعرفة السابقة: يربط المتعلمون المعلومات الجديدة بأفكارهم ومعتقداتهم وتجاربهم السابقة.
– التعلم اجتماعي بطبعه: يتقدّم الطلاب أكثر حين يتفاعلون مع المعلمين والرفاق.
– التعلم فاعل: المشاركة في المناقشات والمشروعات والأنشطة التطبيقية ضرورية للتعلم الحقيقي، لا الحضور السلبي فقط.
– الدافع مهم: بدون الفضول أو الاهتمام، يقل احتمال بذل الجهد اللازم لاستيعاب المعرفة الجديدة.
– تفرد المتعلمين: لأن كل فرد يجيء بخبرات ومنظورات مختلفة، لا يفسر اثنان المادة نفسها بالذات بالشكل ذاته.
هذه الرؤية تحول الصف إلى مجتمع معرفي بدلاً من قناة أحادية من المعلم إلى الطالب.
مقارنة مع نماذج أخرى
– البنائية المعرفية (بياجيه): اهتمت بعمليات العقل الداخلية وكيف يربط المتعلمون الجديد بالقديم. وجود الواقع قائم، لكن لكل فرد تفسيره الخاص.
– البنائية الجذرية (فون غلازرسفيلد): ذهبت أبعد بالقول إن المعرفة كلها ذاتية؛ لا يمكن للناس أن يدركوا الواقع الموضوعي سوى من منظورهم الخاص.
– البنائية الاجتماعية (فيغوتسكي): ميزت بعدها الاجتماعي والثقافي؛ الحوار والأدوات الثقافية والتعاون محورية، والواقع نفسه يتشكّل من خلال التفاعل الاجتماعي.
مساهمات فيغوتسكي الرئيسية
– منطقة التطور القريب (ZPD): الفكرة الشهيرة التي تصف الفاصل بين ما يستطيع المتعلم هزمه بمفرده وما يمكنه تحقيقه بمساندة. التدريس داخل هذه المنطقة يمكّن الطلاب من التقدم دون إجهاد مفرط.
– التدعيم المؤقت (Scaffolding): الدعم الذي يقدمه المعلم أو الرفاق داخل ZPD، مثل عرض نموذج لحل، تجزئة مهمة، أو إشارات توجيهية، ثم تقليل هذا الدعم تدريجياً مع اكتساب المتعلم الاستقلالية.
– اللغة كأداة للتعلم: اعتبر فيغوتسكي الحوار ليس فقط وسيلة لتبادل الأفكار بل العملية التي تُنتَج من خلالها المعرفة؛ تمنح اللغة أدوات التفكير النقدي وطرح الأسئلة وصقل الفهم.
– الأدوات الثقافية: تتأثر طرق التفكير وحل المشكلات والتواصل بالأدوات والممارسات المتاحة في ثقافة معينة — من أنظمة الأرقام والكتابة إلى الأعراف الاجتماعية والمنصات الرقمية.
كيف تظهر البنائية الاجتماعية في الفصل؟
عندما يطبّق المعلمون مبادئ البنائية الاجتماعية، يصبح الصف فضاءً نشطًا تعاونيًا بدلًا من قاعة محاضرات. دور المعلم يتحوّل إلى ميسّر للحوار. تطبيقات عملية شائعة:
– مشروعات جماعية وتعلم مبني على المشكلات: يعمل الطلاب معًا لحل قضايا مفتوحة النهاية، مثل تصميم تجربة لاختبار جودة المياه في المجتمع.
– مناقشات صفية: تشجيع تبادل التفسيرات والنقاش حول النصوص والأفكار لاستكشاف وجهات نظر متعددة.
– نشاط التفكير-المشاركة-العرض (Think-Pair-Share): يعكس الطلاب فرديًا ثم يناقشون مع شريك ثم يعرضون أمام الصف، ما يعزز الثقة والمهارات التواصلية.
– التدريس بين الأقران: يساعد الطلاب الأقوى زملاءهم، مما يقوّي فهم المعلّم وفي نفس الوقت يمنح الداعمين فرصة لتقديم دعم مخصص.
– التمثيل والمحاكاة: يلعب المتعلمون أدوارًا لاستكشاف مفاهيم من زوايا مختلفة، مثل محاكاة مناظرة تاريخية أو تجربة رقمية لفحص مبدأ فيزيائي.
حدود يجب الانتباه إليها
رغم مزاياها، تواجه البنائية الاجتماعية تحديات:
– اختلاف تفضيلات التعلم: لا يفضل كل الطلاب العمل الجماعي؛ بعضهم يزدهر بالهيكلية والاستقلالية.
– موازنة الإرشاد بالاستقلال: إفراط التوجيه يحد من الاستقلال، وقلة التوجيه قد تخلق ارتباكًا ومفاهيم خاطئة.
– ضيق الزمن: التعلم المفتوح قد يصعّب تغطية كل المناهج المقررة.
– الجاهزية التطورية: قد يفتقر الصغار لمهارات توجيه تعلمهم ويحتاجون لتدخل أكبر.
لهذه الأسباب تعمل البنائية الاجتماعية غالبًا بكفاءة أكبر عندما تُدمج مع استراتيجيات أخرى وتُكيّف وفق احتياجات الطلاب.
المستقبل: التكنولوجيا والتنوع الثقافي
مع انتشار منصات التعلم الرقمي وأنظمة إدارة التعلم، أصبحت التعاون عبر الإنترنت أسهل من أي وقت مضى — مشروعات جماعية، مناقشات، وتقديم ملاحظات الأقران حتى عند التباعد الجسدي. كما أن التعليم المتجاوب ثقافيًا يندمج بسلاسة مع البنائية الاجتماعية من خلال الاعتراف بخلفيات الطلاب وتجاربهم وجعلها جزءًا من عملية التعلم.
خاتمة
تؤكد نظرية فيغوتسكي على أمر بديهي: نتعلم أفضل حين نتعلم مع الآخرين. عبر اعتبار الصف مجتمعًا معرفيًا، تمكّن البنائية الاجتماعية الطلاب من طرح أسئلة أفضل، اختبار الأفكار في الحوار، وبناء معرفة تبقى. ليست ملائمة لكل حالة، لكنها — بمبادئها مثل التدعيم، منطقة التطور القريب، ودور اللغة والثقافة — تظل مؤثرة في ممارسات التعليم حول العالم.
Thinkific Plus
توفر منصة Thinkific Plus بيئة قابلة للتوسع مع الأدوات والدعم اللازمين لتعزيز النمو، تسريع إدماج المتعلمين، تقليل التسرب، وزيادة الإيرادات.